وعـبْـر أحراش كاسا دي كامبو مـرّ رمزي بالـزرافات المعـتادة من البغـايا والمـومسات القادمات من بلاد الفـقـر والـمرض في إفـريقـيا السوداء جنبا إلى جنب مع زميلاتهن الاسبانيات والأخريات القادمات من بلاد الفـقـر والمرض في أمريـكا اللاتـيـنـية وهـنّ يقـفن في عـرض الشارع شبه عـرايا، وبزرافات أخرى من الرجال المخـنـثـين ممن اصطـنعـوا لأنفسهم أثداءا وتـشبّـهـوا بالنساء ووقـفـوا مثـلهـن يعـرضون أجسادا مزورة. وعـند إحدى التـقـاطعات اضطر رمزي إلى إيقاف سيارته للحـظات بانتـظار عـبور سـيارات أخرى احـتشدت في تلك الغابة وعـلى متـنها أغـلبـية ساحـقة من الرجال بين مضطـر للمرور عـبر تـلك المنطـقة أو باحث عن فريـسة من البغايا أو متـمتـّع مجانا بتأمل الأجساد الأنـثـوية المعـروضة على قارعة الطريق. ولـمح عـن بعـد أطفالا يلعـبون بـكـرة وشابـين يتـدربان عـلى مصارعة الثـيران بقـرنيـن اصطـناعـيـيْن وقطعة من القماش الأحمر. وشاهـد سيارة شرطة وقـد تـوقـفت على بعـد أمتار من مجـموعة من المومسات وقد انهـمك شرطـيّان باصـدار مخالـفة لراكـب درّاجة نارية صغـيرة وقـديـمة. وأتاه صوت أحدهما وهـو يعـنّـف قائد الدراجة – الذي كان مظهره ينم عن حالته المتواضعة - لعـدم احترامه السرعة القـصوى المسموح بها للعـربات في تـلك الشوارع. وضرب رمزي المقـود بـيده وهو يهز رأسه بحـنـق على ذلك المنطـق المعـكـوس الذي كان يدور حوله فإذ به يفاجأ بثـدييْن سمراوين يخـتـرقان نافـذة عـربته ووجه فـتاة لا تـتجاوز العـشرين من عـمرها يـكاد يرتـطـم بوجهه وهي تـرجوه أن يسمح لها بالصعـود إلى السيارة فـبـوغـت بها أيـما مباغـته ودعّـها بيده برفق معـتذرا ومسارعا إلى إغلاق نافـذة السيارة وهـو يكـيل السّـباب والشـتائم إذ اقـشعـرّ بدنه لمظهرها المُـهين في الوقت الذي وجد فيه عـربتـه وقد أحيطـت بالبغايا من كل جانب وهـن يقـمن بحركات وإشارات فاضحة لاغرائه وإغراء غـيره من قائـدي السيارات فاندفع بسيارته بحذر بينهن فانهلن عـلـيه بالشـتائم وركـلـن العـربة كـيفـما استـطـعـن وسـط قـهـقـهة الشرطـيـيْن الذيْن كانا يرقبان المشهد جذلانيْن بينما لاحظ رمزي كيف كان قائد الدراجة المسكين ينسلّ بدراجته بهدوء مبتعـدا عن المكان وفالـتا من قـبـضة الشرطيـيْن فارتسمت على شفـتـيْه ابتسامة واهـية بـينـما كان قد تمكّـن بدوره من الافلات من حصار المومسات
ولما وجد نفسه في مكان ظـنه آمنا دلـف بسيارته الى ساحة تـرابية تحـيط بها الأشجار من كل جانب، وقد توقـفت فيها سيارات أخرى، ونـزل من عـربـته ليرى ما إذا كانت ركلات المومسات قد أوقعـت ضررا بالسيارة . ودار رمزي حول العـربة وعـاد إلى مقعــده أمام المقـود. وعـندما كان يشغـّـل محرك العـربة من جديـد وقع نظـره عـلى سـيارة من السيارات الواقـفة تحت الشجـر عـلى مقـربة منه فـلـفت نظـره وجـود رجـلـيْن في مقعـدها الخـلـفى فـنظـر الى باقي العــربات فوجد في كل منها رجلـيْن فأدرك أنه وقـف في أحد أوكار المخـنّـثــين وما أكثرها في مدريد، فانطـلق بسيارته لا يلوي على شئ شاتـما ولاعــنا كل ما حوله بصوت عال
وتـنفـس رمزي الصعـداء إذ خـرج من أحراش كاسا دي كامبو وتـذكّـر كيف كانت تلك الأحراش قبل سـنوات مرتعـا للعائلات في نزهاتـها البريئة بصحـبة أطفـالها فغــدت مرتعا للدعـارة والشذوذ الجنسي والرذيلة التي تطـفح بها المدينة بأسـرها
وتأمل رمزي الشوارع والجسور التي كان يمرّ بها في طريقه. إن مدريد هـذه لم تعـد مدريده. تـلك قد ضاعـت … مدريد التي عـرفها قـبل ثلاثـين ســنة قـد ماتـت. أما مدريد الـتي يطأها اليوم بقدميْه فهي لم تعـد مدينته، ولا أناسها اليوم هـم الذين عـرفهم آنذاك . حتى الوجـوه فـيها تغـيرت وأصبحت ذات تجهّـم وكانت في الأمس بشـوشة. أما شـوارعـها فصارت تغـصّ بالمخـدرات والمومسات والسكارى والمخنـثـين والشحاذين. كان حـنـق رمزي تجاه مدريد يشتـد باقـتـرابه من المـستـشـفى
وعـندما وصل إلـيها وبلغ المـمرّ المؤدّي إلى غـرفة العـناية المركّـزة كان رمزي يرتجـف من أعلى رأسه الى أخمص قدميه من هول المشهد الذي كان يتـصور أنه سيـواجهه في شخـص حـبـيـبه حازم بعـد لحـظات. ورأى بسّام يهرول نحوه ورأى خـلـفه عـددا من الأصـدقاء والمعـارف ممن لا تـقـلّ غـربـتـُهم عـن غـربته طـولا وحـمقـا . وسارع ليسأل بسام، وهـو خالجه شغور بـأنه قـد قـفـز في اللج العـمـيـق لا محالة بعـد أن خـشي السباحة في مصيـبة حازم منذ المكالمة الهاتـفية مع بسام:
- كيف حاله؟. هـل هـناك من تحسّن ؟
- إنه الآن في غـرفة العـمليات. قال لـنا الأطباء أن العـملية يـمكن أن تستمر لأكثر من ساعـتين. لقد استردّ وعـيه قـبل دخوله الى غرفة العـمليات بدقائق
- أيعـني هـذا أن حالـته غـير خطـيرة جدا؟
- بل إن حالته خـطـيرة يا رمزي ولكن الأطباء قالوا لـنا أن خطورتها كانت ستـزداد لو أنه ظل فـاقد الوعي. إنه يعاني من إصابات جـسيـمة في أعـضاء حـيـوية من جـسمه وساد صمت بـينهـما شعـَـرا بكثافـته وثـقـله على قـلبـيْهما فبادر بـسّـام إلى طـرده بقـوه قائلا بنبـرة ذات توتر :
- الأطـباء هـنا مهـتـمون به جـدا لاسيّـما وأنه زميـلهـم وبـيـْـنهم من يعـرفه شخـصيا. كما أن الأطـباء العـرب في الـمسـتــشـفى يتابعـون حالـته أولا بأول
وهـمهـم رمزي مُـثـقلا بالغـمّ إلى آخـر حـد بـكلام لـم يفهـمه بسّـام ولـكنه لاحـظ عـلى وجه الـرجل تجهما وحـزنا لـم يرهـما عـليه من قبـل، فـربت عـلى كـتـفه واقـتاده بـرفـق إلى قاعـة الانــتـظار، وكان مرافـقو بسام قـد سبـقـوهـما إلـيها. وساد في الغـرفة صمت عـميق وأطرق رمزي إلى الأرض بين قـدميْه دون أن يـلـتـفـت إلى أحد أو يكـلـم أحدا ... فحازم في غـرفة العـملـيات لـيخـرج منها للحياة أو للـموت... وهي حالة تـلغي الكلام كـله وتجعـله هـراءٌ في هـراءْ ... ثم أن الحادث وقع أثناء قدومه الى مدريد لمقابـلـته هـوَ. نعـم هـوَ. وبدأ شعـور عـظـيـم بالذنـب يـنـتاب رمزي وعاد بذهـنه إلى المكالمة الهاتـفـية التي دارت بـيـنه وبين صديـقه حـازم قـبل أيام قـليلة:
- ما دمت لا تـتـنازل وتسافر لزيارة صديقك فإنـني مضطـر لأن أكـون أحسن منـك فأسافر أنا لزيارتك. أم أن الصداقة أصبحت مجرد كلام؟
- معاذ الله يا حازم. ولكنني هنا في مشغـلة دائـمة ودوامة لا تـتـوقـف
- ومن منّا ليـس في مشغـلة ودوامة. ثم أن هـناك إجازة نهاية الأسبوع وليس فـيها من مشاغـل رضيت أم أبيت
- معك حق. هذه المرة تعال أنت والمرة التالية تكون السّـفـرة عـليّ أنا . إتـفـقـنا ؟
- إتـفـقـنا، رغـم أن الزيارة الأخيرة قمت بها أنا وكان المنطق أن تكون هذه الزيارة عـليك ، ولكن معـزتـك عـندي أغـلى من مثـل هـذه الحسابات. السبت أكون عـندك بإذن الله
مكالمة دارت يوم الاربعاء الماضي وهاهـو السـبت المشؤوم قـد حـلّ وليـته ما حلّ أبدا. وسمع بسام يكـلمه هامسا في أذنه:
- رمزي. هـل أنت بخير؟
وهـزّ رمزي رأسه بالإيجاب بينما دار حديث بين باقي المنتـظرين تـشعـّب وتـفـرّع
….. دوّى صوت حازم … هـيا … هـنا …إرم الكرة إلي هـنا يا رمزي… حيّ الـنّـُـقـرة الصاخـب بلعـب الأولاد في ساحاته التــّـرابـية يستحـمّ بخـيـوط شـمس الغـروب والصّـبـية يرسمون ملاعـب لكـرة القدم بأرجـلهم الرشـيـقة. وبانـتهاء اللعـب يـمشي الصديقان عائديْن إلى منزليْهما القريـبـيْن، ولكن ليس قبل أن يدلـفا إلى بـقـّالة ياسر ليشتري كـل منهما زجاجة من مشروب غازي يرطبان به حـلقيْهما الجافـّـيْن من كـثرة الركــض والصراخ. ولربما يتعـمدّان قبل العـودة إلى البـيْت أن يمشيا الهوَيْـنا في شوارع حـيّهما يتبادلان الحديث ويستـرقان النظر الى الشرفات بحثا عن الفـتـاة السمراء التي تلوح لهما بين شرفة وأخرى وقد انسدل شعـرها الأسود يحاكي أشعة الشمس الصفراء جمالا وسحرا فـتبعـث فيهما المزيد من الطاقة عـلى الحديث والضحك وحياكة الأحلام . فإذا بلغا شارع موسى بن نصير وولجا المبنى الذي يضم شُـقـتيّ عائلـتـيْـهـما، هـبّت عـليْهما روائح من مطابخ الشـقـق الخــمس التي تـضمّها العـمارة والـتي تـقـطـُـنها عائلات فـلسطينيّة وسورية ولـبنانية أمضـت سنوات طويلة في جـيـرة وفـيّة وسلسة نشأ الأبناء في ظـلـّها تـربـطهـم، حـتى الـيوم، مشاعـر الأخـوّة الحـقـيقـيّة. منهم من ما زال يـقـيـم في الكويت ومنهم من تـقاذفـته السنون فـتـبعـثـروا في قارّات الأرض وظـل الحـنين يـشدّهـم إلى الكويت فـلكَم عادوا إليْها زوّارا إذا سنحت فرصة، تـماما كما يفعـل هـوَ وحازم مقـتـنصين الفـُرص لزيارة عائـلـتـيْهما. وقد مرت عـدة سنين منذ الزيارة الأخـيرة
وجاءه صوت بسام ليقـطع عـليه ذكرياته الحبـيـبـة التي كان يرى فيها وجه حازم، أيام كانا صبـيـّيْـن، بوضوح وقـوّة لشـدّما استغـرب لهـما في تلك اللحـظات:
- رمزي. هـيا بنا لـنـتـناول شيئا من الـقهـوة، فإن الانـتـظار سيكون طـويلا جـدا
وراقت له الفكرة، فإنها ستخـلـّـصه ولو لدقائق من الجـلـوس في هـذه الغـرفة الكـريهة التي كان عـدد المنـتـظـرين فـيها يـزداد دون تـوقـف، وكانوا جميعا من العـرب من أصدقاء حازم ومعارفه ممن بلغهم خبر الحادث فهـرعـوا الى المستـشـفى للإطـمئـنان عـليه والوقوف إلى جانبه. وكانت بينهم وجوه لم يكن قد رآها منذ أكثر من عـشر سنوات
وما أن انتهيا من تـناول القهـوة حتى شاهـدا الجـرّاح الذي أجرى العـملية لحازم يغادر غرفة العـمليات. وهُـرع رمزي وبسام إليه يسألانه عـن حالة صديـقهما فـنظـر إليهما بجدية وقال بهدوء: - حالـته مستـقرة في إطار الخطورة البالغة التي تعرفانها. لن نـتأكد من تحسن حالته قبل مرور ثماني وأربعـين ساعة. الدكتور أحمد ساعـدني في العـملية وسيخـرج بعـد دقائق وسيـزوّدكم بتـفاصيلها.
ولم يكن في التفاصيل ما يـبعـث الكثير من الأمل. وشعـر رمزي اذ استمع للدكتور أحمد بانهيار داخلي لم يسبق أن شعـر بـمثـله من قـبل. كأن بناية قد انهارت داخل جسـمه وعـقـله . ولكنه تحامل على نفسه وأسند ظهره الى الحائط في الممرّ الطويل
….. الصباح رقـيـق والـنسمة حانيـة ومنعـشة... والصبـيّـان يجدّان الخطى عـبر حي النُـقـرَة نحو مدرستهما في حَوَلـّي ... بامكانهما أن يركبا حافـلة المدرسة ولكنهما آثرا أن يمشيا ليملآ عـيونهما من الحياة التي تعـجّ بها الشوارع في تلك الساعة المبكّـرة. زقـزقة العـصافير تملأ الصباح رغـم ضجـيج السيارات التي حـمل فـيها الآباء أبناءهـم صوب مدارسهم وضجـيج حافلات المدارس ... الحافلات الصفراء التي رافـقـت صباهـما والتي أقـلـّـتـهما طيلة سنوات إلى مقاعـد الدراسة... غـير أنهما كانا يفضلان المشي أحيانا، لاسيما في شهور الربـيع، ليتمتعا بزرقة السماء ... وانفـتاح الفضاء ... واستـنـشاق الهواء المشبّع برائحة البحر ... لا فضاء مثـل ذلك رحابة واتـساعا ولا أفق مثل ذاك امتدادا ووضـوحا... تـلك المدينة الصبـية كـصباه... النضيرة نضرته... هي حُـبّـه المُـبـكّـر ... فأين منها مدريد... هـذه العـجوز الشمطاء ... العجوز المتصابـية والمبتذلة. أين من تلك الصبـيّة التي أصبحت اليوم شابة حسناء هـذه المومـس الرخـيـصة التي لا تـتـورع عـن بـيع نسائها في الشوارع وفي المواخير بل وعـلى صفحات الصحف
ودُفعـت ضفـّـتا الباب الكبـير المؤدي الى غـرفة العـمليات ليظهر منه ثلاثة ممرضون يدفع أحدهم سريرا مر به أمام عـينيّ رمزي فجـحـظـتا لرؤيته حازم مكبلا بالأنابـيب المثبتة في أنحاء جسده بينما اختـُُرق أحد رسغـيه بحـقـنة ثابتة تـنـتهي الى زجاجة عـُـلـقت فـوق رأسه عـلى منصة جرها بمحاذاة السرير ممرض ثان. كان حازم مغـــمض العـينـين في غـيـبوبة. وسار رمزي خلف السرير وانضم اليه بسام ورفاق آخرون حتى اقـشعــّر بدن رمزي اذ تـلـفـّـت حوله وخـلفه فخاله جمع يشيع جنازة . وتـقـدمت المسيرة عـبر الـممر الطويل الذي يتـفـرع يمينا ثم يسارا ثم يعـود فيتفـرع المرة تلو المرة وكأنه لا نهاية له . وكان رمزي لا يحول نظـره عـن وجه حازم تارة قارئا في صمت آيات من القرآن الكريم وتارة مبتهلا الى الله الـشفاء لصديقـه وتارة تـتـناهـب أفكار شتى سوداء حيز عـقـله بسرعة جنونية
ترى أيكتب لهما بعـد اليوم أن يعـودا معا إلى الـكويت … ترى أترافـقـني يا حازم من جديد … في الخريف المقبل … بل حالما يمنّ الله عـليك بالشفاء … لنـتجــّول معا، كما كنا نفعـل في صبانا. أتذكر؟… هـناك في السوق قـرب جامع العـثمان وأضواءه ومصابـيح المتاجـر ومحلات الحلوى قربه متلألـئـة، خاصة في شهر رمـضان. أتذكـر كـيف كانـت تـلك المحلات تـبدو لنا في أنوارها مجـرّات سماوية تغـصّ بالنجوم من كـنافة إلى عـوّامة إلى بـقلاوة إلى غـيرها من روائع بلاد الشام التي طالـما أسكرت مذاقـنا. وخالجت شفـتيه ما يشبه الابتسامة وهـو يتـذكـر كـيف كان يـتـقـزّز حازم كـلما حمله الشوق عـلى تـناول هـذه الضـروب من الحـلـوى في مطاعـم عـربيه في مدريد أو كـلـما اشتراها من محلات عـربـية وكيف كان يردد على مسمعه:- "هذه الكـنافة يا رجل ما علاقـتها بكنافة بلادنا؟ ولماذا يسمونها كنافة ولا يسمونها سخافة؟ فإن لها من العلاقة بالكنافة الأصلية ما للشاورما هـنا من علاقة بالشاورما الأصلية. كان الأجدر بهم أن يُـسـمّـوها هـنا ماشاورما و ماكنافة" . وعلى هذا المزاح كان يرد على صديقه قائلا:- "والله لو أتـقـنوا صنع الكنافة هـنا حـتى تـفـوّقوا فيها على كنافة بلادنا لما اسـتسغـنا لها مذاقا معــشر المغـتربـين ممن تـربّـينا عــلى حـلـويات بلادنا، خاصة تلك التي اعـتدناها في النُـقـرة وفي حَـوَلـّي. إننا لا نبحث فيها عـن المذاق بقدر ما نبحث فـيها عن الذكريات السحـيقة والعُـمر المُـنصرم"
ودفع أحد الممرضين الثلاثة ضفـتي الباب الكبـير المؤدي الى قاعة العـناية المركزة ومنع رمزي وبسام ورفاقهما من الدخول إليها فانـتـقـلوا إلى غرفة انـتـظار قـريـبة ريثما يستـرد حازم وعـيَه من غـيـبوبة المخـدّر. .وفي الغـرفة، اتجه مع بسام الى النافذة المطلة على إحدى أجمل المناطق في مدريد، وتأمل كلاهـما المنظر في صـمت وأحراش كاسا دي كامبو مـمتـدّة أمامهما تـلـيها أحياء ألوتـشيه وكرابنشـيل المكتـظة بالسّـكان وبعـد برهة صمت تمـتم رمزي:
- أنظر الى هذه الـقـحـبة التي صارت تـتـقـزّز منا بعـد أن باعـت نفسها بالكامل للعـم سام وما أدراك ما العـم صـمويل!
ونظر إليه بسام لا يفهم مراده ولا يعـلـم بما يعـتـلج في نفسه من حنق على مدريد. ولكنه اسـتـشف في نبرة صديقه رغـبة في التـنـفـيث عن النفس وسـط المصيـبة التي حـلت بهم في يومهم ذاك، فـقال بجد كعادته إذا مزح، لا تطـلّ البسمة عـلى مُحيّـاه مهما كانت النكتة مضحكة:
- قـحــبة؟ أية قحـبة تعـني... هـذه الشوارع تعـجّ بهن والبنايات التي أمامك ما أكثر ما فيها من شقـق دعارة
- هي مدريد. إنها القحبة الكبرى
وذهل بسام للجواب ولاحظ أن الـتجهم لم يفارق وجه رمزي قيد أنـملة. فـتـلعـثـم قليلا قبل أن يعـود للإمساك بخيط السخرية :
- يـبدو أنك لا تحترم مشاعـر الإسبان فعاصمتهم ليست فـقط بالـقحبة الكبرى بل هي الـقحـبة الأوروبية الكبرى. رغـم أنها والحق يقال جديـدة على الصـنعة. بأية سرعة مذهـلة تعـلمت هـذه المدينة مهنة الدعارة!! بل وتـفوقت بها أي تـفـوق … عـندما جـئـناها في الستـيـنات كانت مدينة فاضلة.
وجاءهما صوت الدكتور أحـمد فالـتـفـتا إليه ليجداه واقـفا وسط الغـرفة يوجّـه حديـثه للمـنـتـظرين ومعـظـمهم من معارفه أو أصدقائه:
- رمزي بدأ يستـردّ وعـيه، وهـذه علامة طـيّـبة تـشـير إلى وجود أمـل في شفائه وانهال المنتظرون على الطبـيب بالاسئلة حول تـفاصيل العـملية الجراحية وردّ عـليها أحـمد سؤالا بعـد سؤال دون أن يحوّل نظـره عـن رمزي، الذي كان يستـمع للـشرح دون أن ينبس بكلمة. تـقـدم الدكتور أحمد نحو رمزي، وكان من معارفه القدامي، وأحاطه بذراعيه هامسا بأذنه
- رمزي. حازم يهذي باسمك . لـقـد سأل عـنك قبل دخوله إلى غـرفة العـمليات وكان في كامل وعـيه ومنذ بدأ يسترد وعـيه لا ينفك عن ترديد اسمك
- ماذا؟!
- عندما يسترد وعـيه بالكامل سـنسمح لك بالدخول لرؤيته. أنت وحدك . فالدخول الى غـرفة العـناية المركزة ممنوع تماما كما تعـرف، إلا في حالات استـثـنائية تـُعـتبر في صالح المريض إذ يمكن أن تساعـده على الشّـفاء
- حسنا. سأكون هـنا بالانـتـظار
والـتـفـت الدكتـور أحـمد إلى بسّـام وباقي المنـتـظرين سائلا
: - ألم تصل زوجة رمزي بـعـد؟. حال وصولها رجاءا أن تـصطحـبوها الى مكتب الأطباء في آخر هذا الممر
وغادر الدكتور أحمد الغرفة بينما حلق طـير الصمت على رؤوس المنـتـظرين بعـد أن استـمعوا لـتـفاصيل العملية الجراحية التي أجريت لصديقهم فازداد قلـقـهم عليه وانـتشر بينهم شعور بكآبة عميـقة. وفي الوقت الذي غادر فيه بعض المنـتـظرين الغرفة فرادى، مطرقين الى الارض كمن يهيم على وجهه بغير هدى، عاد رمزي يجر قدميه الى النافـذة حيث كان بسام قد سبقه اليها ووقف كلاهما شارد البـصر في الفـضاء الفسيح الممتد أمامهما وقد لاذ كل منهما بافكاره وهواجسه. كان رمزي منفطر القلب منذ أن علم أن صديق عمره حازم يهذي باسمه. وكيف لا ؟. وهل لكل منهما من أهل في هذه الديار الا صديق الطفولة والشباب!. حتى الزوجة وحتى الأبناء - وليس لحازم من ابن - يقـفون في مثل هذا الموقـف الأقصى من حياة المغـترب في الصف الثاني بعد الصديق الحميم المنـتـمي الى ذات الجذور والذكريات والتجربة. أية حياة مقيتة هذه التي يواجه فيها الانسان الموت وحيدا دون أهل ولا أقرباء !! أية حياة هذه التي يلعب فيها الصديق دور الأب والشقـيـق ... قسرا لا طواعية. ولكن برضاء وحماس
وندا عن بسام تأوه عميق قال فيه بنفس طويل جاء مجبولا بالألم وبعيدا عن أية سخرية:
- آه يا مدريد ... قضينا فيك شبابنا من أوله الى آخره ... في كل زاوية لنا فيك ذكرى وحنين، وفي كل منعطف طريق تجربة وموقف ... وفي كل شارع حكاية ... وتحت كل شجرة نبضة قـلب
ورد عليه رمزي دون ان يحول نظره عن اللاشئ في الفضاء المترامي أمامه :
- أراك مولع بمدريد ووله بها . أم هي سخرية أخرى كما اعتدت ؟
- كلا . بل أتكلم بجد . أن علاقـتـنا بمدريد علاقة الوعي. انها حياتـنا بعنفوانها ... حياتـنا بمعـنى الكلمـة ... بمعزل عن كونها حياة سعيدة أو تعـيسه ... انها حياتـنا كما عـشناها وكما قدر لنـا أن نعيـشها
وقاطعه رمزي قائلا:
- من الثابت أن الانسان يألف سجنه وزنزانته بعد سنوات من مكوثه فيهما
- أتعرف يا رمزي؟… لو أنك تـبتعد عن مدريد ردحا من الزمان لانفـطر قلـبك حنـينا اليها كما ينـفطر اليوم شوقا الى وطن حولـته ظروف حياتـنا الى سراب وحنيـن الى زمن بعيد لم يعد له من وجود
وبدا أن الرجلين كانا بأمس الحاجة الى نقـاش من هذا النوع الـفلسفي يجرهما بعـيدا عن واقع الموقف المرير الذي كانا يواجهانه. فانبرى رمزي قائلا دون أن يسـترد بصره الشارد: - انك محق فيما تـقوله. لا أحد يناقـش هذه البديهيات. ولكن البديهة الكبرى والـحقيقة التي ما بعدها حقيقة في هذا الموضوع هي أننا عشنا هنا حياة مختـبر ... حياة اصطناعية ... لأنها لم تكن امتدادا لذاتـنا
- حياة مختبر؟ أنا وأنت فأران في مختبر اسمه مدريد ؟ ماذا تقول ؟
- الطفل والصبي الذي كناه أنا وأنت لم يتـرعرع ولم يكبر وإنما الذي كبر وترعرع في هذه الديار هو إنسان لا علاقة له بذلك الطفل ولا بآبائه وأجداده . لقد اجـتـثت حياة كل منا اجتـثاثا منذ وطأنا أرض الغربة فعشنا هنا منسلخين عما حولنا. فأران في مختبر كما تقول لكن أحدا لا يدرسنا ولا يلتفت إلينا
والتفت اليه بسام ونظر اليه مليا ورمزي لا يحول نظره عن اللاشئ . كان بسام يعرف عن صديقه مدى ارتباطه الوجداني بالوطن العربي وكان يشاطره هذا الحنين ولكنه لاحظ وجود خطاب جديد في حديثه وافكار لم يسبق له أن عبر عنها
واستطرد رمزي يـقـول بعد ان توقف منـتـظرا دون جدوى أي تعليق يأتيه من بسام:
- من قال أنني أشعر بحنين الى وطن سراب كما تـقول؟ . السراب هنا في وطن ليس بالوطن وسط مجتمع ليس بالمجتمع. كل حياتنا هنا سراب في سراب ولو اننا نموت جميعا اليوم، أنا وأنت وكل العرب الذين جاؤوا للاطمئـنان على صحة حازم، لما اهتزت شعرة واحدة في رأس أحد في هذا المجتمع الذي نعيش فيه متطفلين غرباء سيان بالنسبة له ان عشنا او متـنا
وعـقـف بسام حاجبيـه إزاء تلك الكلمات ثم قطب ما بـيـنهما وهو لا يكف عن النظر الى رمزي ثم قال:
- لكنني لم أسمعك تردد مثل هذا الكلام منذ أن عرفـتـك، وقد مر على ذلك ربع قرن
- بل سمعتني أعبر عن هذه الافكار أو عن أخرى مشابهة مرارا
- حسنا. ربما . غير أن آراءك اليوم لهي بمثابة قطيعة مع الماضي والحاضر… مع مدريد
- يا عزيزي قل لي بالله عليك ، هل أصبحنا نشعـر بمرارة الغربة في هذا البلد إلا منذ سنوات قليلة؟. بل قل لي بصراحة، هل تشعر أنت اليوم بأنك مرتاح في هذا البلد كما كان الأمر عليه قبل عشرين عاما، على سبيل المثال؟
- قطعا لا. ولكن…
وقاطعه رمزي مستطردا:
- منذ عشرين سنة … بل ومنذ خمس عشرة … ما كنا لنسمع شتيمة واحدة أو إهانة واحدة موجهة لقومنا وديننا
وهز بسام رأسه مؤيدا وهم بالكلام لكن رمزي سارع يقول :
- أما اليوم فان إهانتـنا أصبحت تشكل ركيزة أساسية لفكر هذا المجتمع وخطابه اليومي وهـتـف بسام بقـوة هازا رأسه نفيا هذه المرة:
- كلا. إنك تبالغ. إنهم …
وعاجله رمزي قائلا بقوة :
- بل هم الذين يبالغون في حملتهم علينا غير أن الكثيرين منا هنا اعتادوا الشتيمة وأصبحت له جلود التماسيح وتأفـف بسام وبدا وكأنه ضاق ذرعا بصاحبه الذي واصل الحديث بإصرار وتصميم رغم احتفاظه بهدوء غريب لفت نظر بسام :
- انهم يا صاح ما عادوا يروا فينا معـشر العرب … مهما كانت جنسيتنا … إلا متهمين ومذنبين. فإلى متى يا بسام يمكننا أن نحتمل هذا الجور يا رجل
يتبع في الجزء 3