بـيـن مديـنـتـين

سعـيد العـلـم..." /> بـيـن مديـنـ..."> 1بـيـن مديـنـتـين سعـيد العـلـمي

موقع الأديب سعيد العلمي. منذ 2020/10/2 WEB del escritor Saïd Alami. Desde 2/10/2020 |
ALBUM DE FOTOS | LIBRO DE VISITAS | CONTACTO |
 
 

WWW.ARABEHISPANO.NET المـوقـع الـعـربي الإسـباني


(إسبانيا) موقع الأديب سعيد العلمي

WEB del escritor y poeta Saïd Alami

وجوديات
وجدانيات
القصيدة الوطنية والسياسية
قصص سعيد العلمي
الصوت العربي الإسباني
POESÍA
RELATOS de Saïd Alami
La Voz Árabe-Hispana
Artículos de archivo, de Saïd Alami

 

بـيـن مديـنـتـين

سعـيد العـلـمي

(نشرت في صحيفة القبس الكويتية في 2002)


"إلى ابني عمر"

هاهي المدينة من حوله…يطـل على قـلبها الغاص بالمباني التاريخية والعـمارات الشاهـقة من مكانه في مُـرتـَـفع ألوتـــشـيه حيث تـُحـيـط به المزيد من البنايات المتـراصّة والأبراج السـكـنية التي رُصّـت فـيها رصـا آلاف من الشقـق وعـشرات الآلاف من النوافذ. هاهي أمامه … بـشوارعـها التي لا تـُعـدّ ولا تـُحصى … بملايـين البـشـر من سكّانها … بـضجـيجها وصخَـبها وحركـتها التي لا تعـرف الهدوء ليلا ولا نهار … بحافلاتـها المكـتـظة بركّـابها المخـتـنـقيـن داخلها ... وبركاب آخرين متلاحـمين يمارستون الاخـتـناق بـدورهـم تحـت الأرض في متاهة مترو الانفاق التي لا أول لها من آخر... و بازدحاماتـها التي لا تـنـتهي ومتاجرها التي تـغــص بالسّـلع وبالمُـشـترين… وبأستواقها المعـربـدة استهلا كا وبطــَـرا

إنها مدريد … ثلاثـون عاما عاشـرها واليوم ولا ألـفه… ثلاثون عاما من التـلاحـم واليوم ولا وئام ... المدينة التي أكلها وشربها وتـنـفسها وضاجعـها طـيلة ثـلاثـيـن حولا صارت اليوم ولا وداد. جُـل سنوات حـياته اهـتـرأت في هـذه الـمديـنة واليوم قـلـبُه تجاهـها جفاف في جفاف، ومنظرها الممـتد أمام عـينيه... يـباب في يـباب . أو هـكـذا يخـيـل اليه الساعـة

كان رمزي يُـطـل عـلى الـمدينة جالسا في مـقـهى يـنـتـظـر صديـقه حازم ... صديـقه منذ مقاعـد الدراسة المتـوسطة فالـثانـوية ... هـناك في الكـويت. ومعـا غادرا الكويت إلى إسبانيا فكانت دراسـتهـما الجـامعـية في مدريد ولم يـفـترقا خلالـها. ثـم رحـل صديـقه الى بلد عـربي عـمل فيها لسنوات أخرى عاد بعـدها مهرولا إلى إسبانيا مقـسما أنه لن يغـادرها ما حـيا. وهكذا فعـل... حتى انتهى إلى الإقامة في إحدى قـرى إكستريمادورا طبـيـبا للـقـرية ، قانعـا بعـيـش هادئ يتـنفس فيه الحرية ويتجرع فـيه سم الغـربة ويأكـل لحـم نـفسه

وعاد رمزي يتأمل المدينة من خـلف الزجاج… الشمس طالعة وأشعـتها مرسَـلة تصقـل المكان والأشياء بل والمشاة في أرجاء المنظـرأمام عـيـنـيه. والسماء حـتى الأفـق كانت زرقاء بهيـة بفـضل ريح خـفيفة طـردت سحابة الـتـلوث التي اعـتادت الجـثـوم على تـخـوم المدينة معـظـم الأوقات. وها هـو مطـر مارس اللعـين قـد انـقـطع بعـد أن ظـل يتـناوب لعـدة شهـور حـيز الفضـاء بين السماء والارض تارة مع الريح القارسة وأخرى مع البرد الساكن. فما بالك لا تـفرح؟. ما بال قـلـبك منـقـبـض وصـدرك يزداد اضيـقاقا كـلما اشـتـدت أمواج فـكرك تـلاطـما!. ألا فاكتم هـديـر الماضي واكـبح جماح الحـنين واستـعــد بـقـلـب منـشـرح لاسـتـقـبال صديق الصبا بعـد أن طال الفـراق

لكن رمزي ظل شارد الذهـن … مقـطـب الجـبـين … اذ أن شعـورا غـريبا ما فـتأ ينـتابه هـذا الصباح…هذا اليوم الذي يصادف اكتمال العام الثلاثين لوصوله الى هـذه المديـنة لأول مـرة مع صديقه… كل ما يرى أمامه يثير فيه سؤالا كبيرا … بل هائلا… سؤال ضاق به صدره طيلة السنوات الأخيرة ، لكنه اليوم آخـذ بالـتـفجّـر داخل قـلبه ودماغـه … سؤال حار فيه جوابا رغـم الكمّ الكبـيـر من الأجوبة المقـنعة المعـسكرة ما بين صدغــيه : "ماذا أفعـل هـنا؟"..." ماالذي أتى بي إلى هـذه الديار؟". " ماذا تـفـعـل بـين ظهراني أناس ينكرونك وتـُنكـرهـم ويجهلـونك ويتجاهلونك وتـتجاهلهم؟". "ماذا تـفعـل في مدينة لم تعـد مدينـتـك؟!".

وانـتـفـض ضمير الرجل في أعـماقه . ما الداعي لطرح أسئلة كهذه … الاسئلة العـقـيـمة لا تؤدي الى نـتـيجة غـيـر تـفـتـيـت الإرادة ولا تـقـود إلا لـمزيد من المعـاناة... بل احـمد ربّـك يا رجـل، وأنت المؤمن بالله ، فالصحة موفورة والـرّزق يجــري بـين يديك ولـيست هناك من مآس في حياتك كالتي تعج بها حياة الملايين من أبناء شعـبـك المشـرد والمطارد حـتى في عـقـر داره… فإلام الشكوى والمرارة ؟!... بل إنني أنا المشرّد وليس بعد الـتـشـّرد من مأساة

وتمتم رمزي حامدا ربه محاولا طـرد هـذا الشعـور الخانـق بالغـمّ الذي كان مطبقا عليه في تـلك الساعة بلا هوادة. ألا إنها هي ... المرارة المعهودة التي تـراوحك منذ سنوات ... لعـمري أنها هي ...رأس الأفـعى التي تـفـحّ في غـياهـب نـفسك مـنذ أن خُـلـقـت داخـلها يوم ركـبتَ طائـرة مشؤومة في يوم مشؤوم رحلتَ فـيه بعـيدا عـن جـذورك وناسـك وذاتـك. يـومها صارت الأفعى جزءا من عالمك لم تـنسلخ عـنه أبدا ... وصارت في عـداد أحشـائـك، وظـلـت في بداية الأمر كامنة في جُحـرها بلا حـراك ... لـسنوات ... لعـمري أنـها هي، تعـذبك الآن من جديد وتـُحــّول بهجة الدنيا من حـولـك فراغـا في فـراغ... نـفسك ليست معـك ... وعـيك لا يلازمك ... وهـذه الشمس المطـلة عـلـيك وهـذا الفـضاء الـرحـب وهـذه الحياة التي تـضيـئـهما من حولـك لا تـفـعـل سوى أن تـنـقـل كيانك إلى هناك ... حـيـث الجـذور ما زالـت غائـرة في الأرض ... رغـم الثـلاثـيـن سنة ... هـنالك في وطـنك العـربي الـكبـير وفي مسقـط رأسك ، في الكـويت. ولكن كيف تـنـقـلك هذه السماء وهـذا الأفـق، الـذي لاح فـيه عـلى هـضـبة بعـيدة القـصر الملـكي وكاتـدرائية المديـنة، إلى سماء وأفـق الكويت الـمنـفـتحـين عـلى الكـون كـله، وليس عـلى قـصر هـو متحـف لا حياة فيه أو كاتـدرائية فـيها من الحجـر أكـثر مـما فـيها من البشر وفـيها من المـظهر أكثر بكثير مما فـيها من الجوهـر... ثم عاد يـتـمـتم قائلا لنفـسه أنه إنـما كان بأفكاره تـلـك يـتجـنّى عـلى مديـنـتـه الحبـيـبة هـذه... فإن في الأفـق أمامك مناظـر بديـعة فـيها أكثر بكثير من مجرد قـصـر وكـنيسة

كان رمزي يستعـد لاقـتحام مشادّة فكـرية جديـدة مع نـفسه عـنـدما رنّ جـرس هاتــفه المحـمول - سي . ديغا

وجاءه صوت مشحون بالجدية والحزن معا :

- رمزي؟

- نـعـم، من يـتـكـلـم ؟

- بسام. معـك بسام الـشريـف

- أهلا بسام ، منذ مدة لم أسمع صوتـك . لعـله خـيـر

ولاحظ رمزي تـردّد مكالـمه عـلى الطـرف الآخر من الخط في الحديث مما أثار مخاوفه، لاسيما وأن بسام من أصدقائه المـقـرّبـين ولـم يعـتـد قـط أن يـحـدّثه بتـلـك النـبـرة من الجـدّية والحزن . وجاءه صوته من جديد بعـد هـنيـهة صـمت:

- رمزي

- نعـم . هـل من مشـكـلة؟

وانـقـطعـت المكالمة . وحاول رمزي معـرفة الرقم الذي اتـصل منه بسام ولـكنه لم يفـلح فآثر الانتـظار عـله يتـصل به من جديـد. وأثارت المكالمة في نـفس رمزي مخاوف كثيرة لم يكن يدري أية وجهة يوجّـهها ولكنها زادته غـما على غـم . ورنّ الهاتـف من جديد فسارع إلى الرد

- نعـم . نعـم يا بسّـام . تكلم

- الدكتور حازم

- نعـم . إنني بانـتـظار حازم هـنا في ألـوتـشـيه

- إسمع

- ماذا هناك ؟ إني أسمعـك جـيـدا

- حازم في المستــشـفى

- ماذا؟!. ماذا تـقـول ؟. حازم جاد الله ؟

- نعـم ... نعـم ...

وبُهت رمزي وبقي صامـتا مشلول اللسان تـتـلاطـم في رأسه أفـكار شـتى متـضاربة

- رمزي. رمزي

- نـعـم. نـعـم. ما الذي حصل؟

- لـقـد أصيب حازم بحادث أثـناء قيادته لسيارته في طريق اكستريمادورا قادما إلى مدريد

وصدم الخبر تـفـكـير رمزي أيما صدمة وشل تـفـكـيره

وجاءه صوت بسام أكثر هدوءا من ذي قـبل وهـو الذي يعـرف عـمق الصداقة التي تجـمعـه بحازم:

- رمزي. أعـرف أن الـنبأ جسيم، إنه عـزيز عـليـنا جـميعا لاسيما بالنسبة لك

- كيف حاله؟

- أنـتـظرك في المستــشفى . إنه في غـرفة العـناية المركـّـزة في مـسـتـشفى إيل كلـيـنـيـكو. إسأل عـنه في المدخل ليُـدلـّوك على مكانه بالضـبـط

- يا إلهي!! في غـرفة العـناية المركـزة؟. كيف حالته؟

- لا أخفي عـليـك . إنها سيـئة، ولكن هـناك أمل . أسرع في الحـضور

- وأماليا، زوجته ، هـل تعـرف ما حدث؟ - هي التي اتـصلـت بي بعـد أن لـم تعـثر على رقـمك، إنها في حالة يُـرثى لها من الانهيار النفسي حيث لم يخف عـنها الطبـيب الذي أبلغـها النبأ خـطـورة الحالة. إنها في طريقها الى مدريد بالسيارة. أعـتـقد أنها قادمة برفـقة أخيها. إنني بانـتـظارك هـنا

وأنهى بسام المكالمة وبقي رمزي والهاتـف على أذنه وقـد تـسمرت عـيناه بين قـدميه لوهـلة طويلة في مجلسه في المقهى. وشعـر وكأن كاهـله صار من الـثـقـل أطـنانا. أزاح الهاتف عـن أذنه ونهـض واقـفا بـصعـوبة جـمّة تـخـللها شئ من تـرنـّح إذ زاغ بصـره. يا له من يوم مشؤوم. إنه ينـتـظـر صديـقه في هـذا المقهى، عـند مدخـل المدينة عـلى طريـق اكستريـمادورا، وصديقه مسجّى في مسـتـشـفى قريب يصارع الموت . إلى متى سـتـظل الحياة تـسخر منه وتهزأ

وكانت خطاه خارج المقهى متجها الى سيارته بطـيـئة رغـما عـنه، إنه لا يريد الوصـول إلى المستـشـفى ولا يـريـد رؤية محـبوبه حازم يتعـذب بين أجهزة وأنابيب . لكنه مجـبـر رغـم أنفه عـلى مواجهة هـذا الواقع المفاجئ والمفجع وعـلى تجـرّع الحـنـظـل من كأسه قـطـرة فـقـطـرة

وقاد عـربـته عـبـر أحـراش كاسا دي كامبو باتـجاه المسـتـشفى محافظا عـلى حدود السرعة البطيئة المفروضة على العـربات في تـلك البـقعة الخـضراء من المـديـنة . واستـرق نظرات حـط ّ بها ببصره على ذؤابات الشجر الباسق كما يحط الطير الفـزع عـليها قبل أن يخـفـق بجناحـيه طائرا عـلى غـير هـدى بينـما أشعة الشمس تـلـقي بضـوئها عـلى الأوراق االخـضـر فـتـُـكسبُـها شفافية ورهافة

….. يده في يد حازم... العـمر اثـنـتا عـشرة سـنة ... يتـبادلان حديثا شيقا عـلى باب سينما الأندلس ... تـهب عـلـيهما نسمة البحر الرقـيـقة إذ تـكـوّر الليل عـلى الخـليج... هناك في الأرض الحبـيـبة. من كان يتـصوّر في تلك الأيام البديعة من الـعـمر عــندما اعـتاد الصغـيران عـلى التجـوال بـين دور سينما الأندلس والحمـراء والفـردوس، وكلها أسماء تـنـوّه إلى إسبانيا، أن الحياة ستـقـذف بهما إلى الانـدلس الحـقـيـقـية ليقـضيا بها حـياتهـما!!. الأندلس الحبـيـبة التي عـشقاها عـن بعـد حـتى رحلا إليها يـطـلـبان العـلـم. إن لتـلك الـبقعة الصغـيرة من الكون التي تـقع حـدودها بين سـينما الأندلس وسـينما حولـّي الصيفـية ومدرسـتـهما... مجـرد بضعـة مئات من الأمتار ... تـشغـلها أيضا المحلات التجارية والمقاهي والمطاعـم ومكـتـبة عامرة ... مكانة خاصة بل ومقـدّسة في قـلـبـيٍٍِِِِْـهما. فـلـكم تجـوّلا فـيها في الستـّينات ... تـبهرهـما الأضواء الوهـّاجة من حولهـما وصخـب الحياة وعـنـفـوانها وتملأهـما نـشوة روائح الشاورما والكـباب والفلافل المنبعـثة من المقاهي والمطاعـم. أما الجلوس في سـينما حولي الصيفـية المكشوفة فكانت تشكـّـل قـمة انفعالهـما الصبـياني إذ كانا يجـدان فـيها ضربا من عجـيـبة ... سينما بلا سـقـف!!. وعلى مرمى حجر كانت مدرسة حولي المتوسطة للبنين التي قضيا فـيها أجـمل سنيّ الدراسة. سنين لكم استـرجعا ذكرياتـها في زياراتهما إلى الكويت بعـد أن مضى العـمر بهما مضيّ القطار السريع

وترقرقت دموع في عـينيّ رمزي إذ تـذكّـر أنه كان في جـلسـته في المقـهى قـبل دقائـق توّاق لاسترجاع هـذه الذكريات وأخرى كـثـيـرة مع صديقه حازم. فكلاهـما شغـوف بها يهـفـو قـلـباهما شوقا إليها وإلى ذلك الماضي البعـيد وذلك الوطـن المسحوب من تحت الأرجل. نعـم ، إن نفسه ما زالت تسكن هناك، في البلد التي ترعـرع فيها طفلا فصبـيّا فـشابّا يانعـا جار عـليه الزمان يوما فـتغـرّب سعـيا وراء العـلم في أرض الله الواسعة ، يـوم كان السفـر والتـرحال والحرية وأضغاث الأحلام ، كلها، ذات سطـوة عـلى العـقـل… يوم كان العـقـل أصغـر بكثير من أ ن يعي كـنه الحياة والمستـقبـل أو معـناهـما. نعـم . صحيح أن سينما الأندلس وماحولها من مباني الصبا قـد هـدمت وما عاد لها من وجود إلا أن الكويت ما زال فيها نورا شـدّما يخـتـلـف عـن هـذا النور القاتـم الذي يلف مدريد من حوله

يتبع في الجزء 2

DEJE AQUÍ SU COMENTARIO    (VER COMENTARIOS)


COMPARTIR EN:

Todos los derechos reservados كافة الحقوق محفوظة - Editor: Saïd Alami محرر الـموقـع: سـعـيـد العـَـلـمي
E-mail: said@saidalami.com